لم تعد غزة مجرد مساحة صغيرة، أو منطقة خارج التاريخ والجغرافيا، بل حالة سياسية كبيرة فرضها مليونا نسمة، وكونها تشكل مفتاحاً مركزياً للقضية الفلسطينية، نجحت غزة في أن تفرض نفسها على أجندات السياسات الإقليمية والدولية، فأولا غزة تمثل وتعبر عن كل مكونات القضية الفلسطينية خاصة قضية اللاجئين، وارتبط مستقبل القضية بمستقبل غزة.
ونجحت غزة دائما أن تفرض نفسها على السياسة الإسرائيلية، وتحولت لقضية إنتخابية، لتلاصقها بما يعرف الآن بمنطقة "غلاف غزة"، واكثر من مليون إسرائيلي بات مصيرهم وأمنهم مرتبط بأمن الملوني نسمة.
وتستمد غزة أهميتها من أنها باتت تشكل مركز قيادة حركة "حماس"، فرئاسة المكتب السياسي تتواجد في غزة. وفي إعتقادي أن لهذا دلالات سياسية عميقة على خيارات حركة "حماس". كما تتواجد فيها ايضا قيادات حركة الجهاد، وباقي حركات المقاومة، بعبارة أخرى مستقبل المقاومة مرتبط بمستقبل غزة.
وتكتسب غزة اهميتها على صغر مساحتها وكبر سكانها، حيث ان جغرافيتها تصنع وتحدد مستقبلها السياسي، فهي ملاصقة جغرافيا لإسرائيل بدون عوائق طبيعية، مما يمكن تخيل خيار الكابوس، وهو تدفق مئات الآلاف عبر الحدود. وملاصقة جغرافيا لمصر وتشكل بوابة أمنها الشرقية.
هذا الواقع الجغرافي كما خلق حالة سياسية خلق منها حالة أمنية، وفي هذا السياق تكمن أهمية غزة الإستراتيجيه لإسرائيل. فغزة معطى سياسي ثابت في السياسة الإسرائيلية. فعلى الرغم من إنسحاب إسرائيل الأحادي من غزة إعتقاداً منها أنها تسقط غزة من حساباتها، لكنها عادت وبشكل أقوى من ذي قبل كأحد أهم الثوابت المؤثرة في ديناميات السياسية الإسرائيلية الداخلية والخارجية، فمنذ إنسحاب اسرائيل شهدت العلاقة ثلاثة حروب، وحوالي ثماني مواجهات عسكرية. ولقدت حدث التحول الكبير في العلاقة مع سيطرة "حماس" على غزة.
وليكن واضحاً أن الحديث عن علاقة إسرائيل بغزة، هو الحديث عن علاقة إسرائيل بـ"حماس". وهذا يحتاج منا لمقالة مستقبلية. هذه العلاقة في صورتها العامة اي غزة على إعتبار ان غزة كحالة سياسية أكبر من "حماس" كحالة سياسية علاقة الكل الأصغر بالجزء. وأقصد بالكل الأصغر غزة وعلاقة الكل الأكبر وهي فلسطين. هذه العلاقة تحكمها محددات بعضها ثابت، والآخر متحول أو متغير.
المحدد الرئيس هو المحدد الأمني، وكما قال نتانياهو مؤخراً أن الأمن أولوية إسرائيل الكبرى، ويجبّ أي أولوية سياسية. وغزة كما نؤكد دائما تقع في منطقة الأمن الأولى لإسرائيل، مثلها مثل المجدل، ولهذا دلالات سياسية عميقة بأن إسرائيل، حتى ولو كان هناك إتفاق مكتوب وشامل وليس إتفاق تهدئة غير مكتوب أي تهديد لأمنها له أولوية على أي إتفاق، بمعنى أن إسرائيل لن تسمح لـ"حماس" وغيرها أن تملك قدرات عسكرية تهدد أمنها في كل وقت، وأي تطور في قوة المقاومة يعني قيام إسرائيل بمواجهته في عملية عسكرية كبيرة.
هذا المحدد أحد أهم الثوابت التي تحكم إسرائيل بغزة، وهو ما يعنى مع بقاء "حماس" والمقاومة مسيطرة سيبقى الخيار العسكري هو القائم.
أما المحددات السياسية فلها أكثر من مستوى، المستوى الأول أن غزة يمكن أن تشكل البديل للدولة الفلسطينية التي تريدها إسرائيل، لسبب بسيط انها دولة تابعة ، ضعيفة، تفتقر مقومات أي دولة سيادية، ولا يؤثر قيامها على إسرائيل، ويمكن التحكم فيها.
اما المستوى الثاني لمتغير غزة في السياسة الإسرائيلية، ان غزة كانت وراء معظم التطورات السياسية الإسرائيلية منذ سيطرة "حماس" على القطاع 2007، وقد إرتبطت الانتخابات المبكرة بحروب غزة، وتطوراتها السياسية.
الحرب الأولى حرب "الرصاص المصبوب" 2008، كانت الحكومة بقيادة حزب "كاديما" ويقودها أولمرت إنتهت بإنتخابات مبكرة فاز فيها نتنياهو وحكومته اليمينية.
الحرب الثانية "عمود السحاب" 2012 بدأت الانتخابات بعد ثلاثة شهور من هذه الحرب.
والحرب الثالثة 2014 تبعتها انتخابات مبكرة نجح "الليكود" ليثبت حكومة الحزب الواحد والقائد الأوحد بقيادة نتنياهو. والتصعيد العسكري الأخير هذا الشهر والذي كان الأقرب لحرب رابعة، ترتب عليه إستقالة ليبرمان وزير الأمن وإنسحاب حزبه من الإئتلاف الحاكم، وليتفق الجميع على انتخابات مبكرة قد تجري في آذار القادم أو آيار. وستشكل غزة مادة إنتخابية تنافسية لكل الأحزاب الإسرائيلية الساعية للفوز عبر بوابة غزة، وفي جميع الأحوال فإن هذه التطورات ستخلق حكومة يمينية أكثر تشددا، بنتنياهو أو بدون.
أما المحددات الإقتصادية فهي أيضا من أهم المحددات التي تحكم إسرائيل بغزة، ليس فقط من منظور حجم التبادل التجاري، بل أيضاً من خلال التحكم بما يدخل وماذا يمنع؟ والتحكم في مصادر الدخل، وهو شكل من اشكال التبعية.
وبالمقارنة بين هذه المحددات يبقى المحدد الأمني المحدد الرئيس الذي سيحكم غزة "حماس" أو غزة الدولة او غزة السلطة.
ولنتوقع الخيار العسكري القادم وربما قبل الانتخابات القادمة.