السياسة مصالح مشتركة وعلاقات ومنافع متبادلة، والسياسة الخارجية لأي دولة لا تخرج عن كونها مصالح وأهداف قومية، ووسائل لتحقيق هذه الأهداف. والسياسة الدولية منذ نشأة الدولة القومية في مؤتمر "وستفاليا" عام 1648 كفاعل رئيس في العلاقات الدولية لا تخرج عن هذه القاعدة. وهذا ينطبق على العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي.
وإبتداء لا بد من التأكيد على أكثر من حقيقة: الأولى أن للولايات المتحدة مصالح إستراتيجية عليا في منطقة الخليج التي تعتبر اليوم من أهم المناطق الإستراتيجية في العالم والتي تسعى كل القوى للوصول لها وإقامة علاقات مع دولها.. الحقيقة الثانية كما أشرت الأهمية الإستراتيجية لمنطقة الخليج العربي، كمركز للنفط، وكمنطقة إستراتيجية وجيوسياسية لها بعدا عالميا.. والحقيقة الثالثة أيضا لدول المنطقة أهدافهم ومصالحهم الإستراتيجية العليا.
وهنا السؤال على مدى أن تلتقي أو تبتعد مصالح وأهداف الولايات المتحدة مع أهداف ومصالح دول المنطقة؟ وفي الإ جابة على السؤال لا بد من مراعاة التحولات في موازين القوى، وطبيعة التهديدات المتغيرة التي تتعرض لها مصالح الدول. وبداية لا بد من التأكيد أن الولايات المتحدة تحمي مصالحها في المنطقة، وتحمي ثوابت سياستها الخارجية الكونية. ونحن عندما نتكلم عن مصالح الولايات المتحدة فعلينا ضرورة مراعاة أن الولايات المتحدة ليست مجرد دولة عادية يمكن قطع العلاقات معها في أي وقت، فهي دولة كونية، وقرارها يؤثر في بنية القوة عالميا وإقليميا.
وللولايات المتحدة ثوابتها الثابتة في المنطقة، وهذه الثوابت التي تحكم سياستها هي:
- الحفاظ على أمن وبقاء إسرائيل.
- ضمان تدفق النفط وبأسعار معقولة.
- الحفاظ على أمن وإستقرار دول المنطقة بقيام علاقات تحالف معها.
هذه ثوابت في السياسة الأمريكية لم تتغير، وقد ترتبط بمصالح أخرى لها علاقة بصعود الدول الكبرى مثل روسيا والصين، والدول الإقليمية مثل إتركيا وإيران. وهناك مستجدات في السياسة الكونية تنعكس على الموقف الأمريكي مثل الإرهاب والحرب الألكترونية والسيبرانيه ومسائل تتعلق بالتجارة والمناخ وغيرها من القضايا الكونية.. لكن ما يلاحظ على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة أن علاقات التحالف مع دول المنطقة تشكل أحد الثوابت في السياسة الأمريكية.
هنا، وقبل الولوج في تتبع السياسة الأمريكية، أشير إلى حالة إدارة الرئيس ترامب في الموازنة والتوافق بين هذه الثوابت من خلال الحديث عن "صفقة القرن" والسلام الإقليمي، وبناء تحالف إقليمي تكون إسرائيل احد فواعله، والتهديديات الإيرانية وتصاعد وتيرة التصعيد العسكري والحرب، لكن إشكالية السلام تبقى التحدي الأكبر، وهذه ورقة في يد دول المنطقة لتحقيق السلام والحقوق الفلسطينية وفي قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، والضغط على إسرائيل.
أعود للسياسة الأمريكية في المنطقة، والتي تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي والتركيز على المطالبة بدور لشركات النفط الأمريكية في التنقيب، وإتباع سياسة الباب المفتوح، ولعل النقطة الفارقة في السياسة الأمريكية كانت مع إعلان بريطانيا في سبعينات القرن الماضي إنسحابها من منطقة الخليج، وظهور ما عرف بنظرية "فراغ القوة"، ومحاولة الولايات المتحدة الحيلولة دون السماح لأي قوة بملئه، وبداية ظهور ما يعرف فيما بعد بسياسة عقيدة أو مبدأ كل إدارة أمريكية، فكان مبدا الرئيس نيكسون الذي أكد على دعم الأنظمة الحليفة والصديقة، وتشجيع التعاون الإقليمي من أجل السلام، ومؤازرة الدول الصديقة لتأكيد أمنها الذاتي.. وجاء مبدأ كارتر ليؤكد على التواجد العسكري المباشر، وإعتبار منطقة الخليج من المناطق الإستراتيجية ذات الأولوية، والدفاع عنها ضد أي إعتداء.
وفي ضوء إنهيار نظام الشاه في إيران، والغزو السوفيتي لأفغانستان تخلت الولايات المتحدة عن مبدأ نيكسون لتتبنى سياسة التدخل المباشر. وأهمية مبدأ كارتر يدخل أمن الخليج ضمن منظومة الأمن الغربية، وتحويله لمنطقة نفوذ أمريكية. وجاءت كل الإدارات الأمريكية اللاحقة لتؤكد على نفس الإستراتيجيات، ولعل إدارة الرئيس ترامب الإدارة الوحيدة التي شهدت توترا في العلاقات، لكن دون التخلي عن الأهمية الإستراتيجية للمنطقة.
ومع بروز العديد من التحولات التي شهدتها المنطقة من تنامي الدور الإيراني وتغلغله في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وتنامي دور الجماعات الإسلامية المتشددة في أعقاب التحولات العربية، وتراجع دور الدولة القطرية، كان لزاما ان تعمل دول المنطقة وخصوصا دولة الإمارات والسعودية للحفاظ على أمنها والتصدي للتدخلات الإيرانية، وهنا تلاقت المصالح الأمريكية مع مصالح دول المنطقة. ومع إدارة الرئيس ترامب بدأت مرحلة جديدة في التعامل مع هذه التحولات التي رأت فيها تهديدا لمصالحها، فكان الانسحاب من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات مباشرة على إيران، وتنامي العلاقات بين دول المنطقة والولايات المتحدة والتي عبر عنها مستوى الزيارات التي تمت كزيارة الرئيس ترامب الأولى للرياض، وزيارات الشيخ محمد بن زايد، والأمير محمد بن سلمان، وأمير الكويت وعدد من قادة المنطقة، كل هذا يؤكد لنا معادلة العلاقات التي تحكم الطرفين.. الولايات المتحدة لها ثوابتها التي تدافع عنها، ولدول المنطقة مصالحها التي يدافعون عنها، والسياسة في النهاية دوائر مشتركة تلتقي عندها هذه المصالح, فالولايات المتحدة تحمي مصالحها ودول المنطقة تدافع عن مصالحها..!