تأتي الذكرى الخامسة والسبعون للأمم المتحدة في ظل تحديات وحقائق كثيرة ذهب البعض إلى القول أنها تواجه موتا سريريا، والبعض يقلل من الفشل ويشير إلى نجاحات كثيرة حققتها الأمم المتحدة، وخصوصا في المجالات الاقتصادية والإجتماعية والإنسانية.
لقد جاء قيام الأمم المتحدة بعد فشل عصبة الأمم لتقوم الحرب الثانية، والتي هي السبب المباشر لقيام الأمم المتحدة لتمنع حربا عالمية ثالثة. ومن هذا المنظور يمكن القول إبتداء أن المنظمة حالت دون إندلاع هذه الحرب العالمية وخصوصا بعد أزمة الصواريخ الكوبية وحديث مبعوث الأمم المتحدة ستيفنسون للمندوب السوفيتي: أنت في محكمة الرأي العام الآن.
إنتقادات كثيرة وجهت للأمم المتحدة عبر مسيرتها الطويلة. وكما قال ريتشارد جوان مدير "مجموعة الأزمات" في الأمم المتحدة أن إعلان الذكرى السنوية للأمم المتحدة تم إضعافه بسبب معارضة الولايات المتحدة لإعتماده لغة قوية بشأن تغير المناخ، ومعارضة بريطانيا وآخرين لمحاولة الصين إدخاله في الحوار. أما مايكل هيرش من مجلة "فورين بوليسي" يرى أن الجمعية العامة لم تكن أكثر من مجرد متجر للحديث في معظم تاريخها لأن مجلس الأمن الذي صممته واشنطن ليكون مسؤولا عن الأمن العالمي تهيمن عليه إرادات خمس دول تملك حق الفيتو. ويقترح برتراند بادي محاضر في العلاقات الدولية في جامعة "ساينس بو" الفرنسية أنه في مواجهة الهيمنة والأحادية ينبغي الإلتزام بالتعددية من خلال التمسك باهداف الأمم المتحدة، وضرورة التخلي عن عقلية الحرب الباردة، وبناء علاقات أكثر عدلا ومساواة. ويعطي مثالا بفشل مجلس الأمن فرض العقوبات او تجديدها كما تريد الولايات المتحدة على إيران، وأنها في طريقها نحو الموت السريري.
ولا شك ان الأمم المتحدة فشلت في تسوية الكثير من المنازعات الدولية. إلآ انها نجحت في ما يقارب من ثلاثين نزاعا في صنع السلام ومنع نشوب صراع إقليمي أو محلي. إلا ان الأمم المتحدة تواجه الكثير من التحديات والحقائق التي تفسر لنا عجزها عن تحقيق كل أهدافها في السلام والأمن العالمي والتعاون الدولي وحقوق الإنسان والتنمية. وأول هذه الحقائق ما يعرف بوهم الإصلاح، فالمبادرات التي طالبت بإصلاح الأمم المتحدة كثيرة والدعوة قائمة على تجديدها لا تبديلها، وكلها بقيت مجرد أفكار على أرفف الأمم المتحدة.. وكما يقول ريتشارد جوان من "مجموعة الأزمات الدولية" أن إخفاقات الأمم المتحدة تتجه أن تكون كارثية، كما في مذابح رواندا وسربرنيتشا في البوسنة. ويرتبط بوهم الإصلاح المحكوم بإرادة القوى العظمى التي ترفض التخلي عن وضعها في مجلس الأمن موازنة الأمم المتحدة، فلقد أنفقت الأمم المتحد ةمنذ نشأتها حوالي نصف تريليون دولار، والملاحظ اليوم التراجع الكبير في تدبير المال اللازم، واليوم تواجه أزمة تمويل للقيام بمهامها، حيث بدأت سياسات تقشف. ويبلغ العجز في موازنتها حوالي 711 مليون دولار في الموازنة التي تبلغ 3 مليار دولار، ذلك ان 51 دولة لم تسدد ما عليها، وأبرزها الولايات المتحدة والبرازيل. هذا وتساهم الولايات المتحدة بأكثر من 22 في المائة من موازنة الأمم المتحدة، اي ما يعادل مساهمة اكثر من مائة دولة، وتساهم بـ 28 ونصف في المائة من موازنة قوات حفظ السلام. هذا الدعم مع إدارة الرئيس ترامب في تقليص وتراجع مما قد يصيب عمل الأمم المتحده بالفشل وخصوصا في مجال حفظ السلام.
تقليص هذه المساهمة وتراجع دور الولايات المتحده يدخل الأمم المتحدة في حقيقه جديدة وهى إتاحة الدور للصين لملء هذا الفراغ، وهو ما قد يزيد من حالات الإستقطاب في داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحديدا.
ومن أبرز التحديات اليوم محاولة الأمم المتحدة تبنى مبادرة "كوفاكس" لمنظمة الصحة العالمية لتدبير الأموال اللازمة لتوفير اللقاحات للدول الفقيرة. حتى الآن تجرى مباحثات مع 170 دولة.
ومن التحديات الفجوة المؤسساتية، فمجلس الأمن يملك السلطة التنفيذية المباشرة لتحقيق أهداف الأمم المتحدة، وهو من يملك تطبيق الفصل السابع من الميثاق الخاص بفرض العقوبات، وتتحكم فيه الدول الخمسة الدائمة. واما الجمعية العامة فهي برغم من عدد أعضائها الـ 193 لا تملك سطات حقيقية، وهي أقرب إلى المنتدى الدولي. اما الأمين العام ورغم محاولته إنتزاع سلطات سياسية فوظيفته إدارية. وكثير من المنظمات الوظيفية لها وظائف غير ضرورية. والإحباط الذي يصيب كل الأعضاء بما فيهم القوى العظمى، بسبب إستخدام الفيتو. وفي الجمعية العامة "نظام دولة واحدة صوت واحد" قد يؤدي لتشكيل التحالفات والكتل الأيدولوجية المتنافسة والمتعارضة.
وتعاني الأمم المتحدة مما يسمى الجيوسياسية الطاغية مثل المنافسة بين أمريكا والصين في داخل الأمم المتحدة، وتحول ساحة الأمم المتحدة للحرب الباردة الجديدة مما سيزيد من اللجؤ لـ"الفيتو" وشلل المنظمة الدولية.
ومن المفارقات فرض الدستور الأمريكي على عمل الأمم المتحدة، بمعنى أن الولايات المتحدة تستطيع ان لا تمنح تأشيرة الدخول لمن يخرق دستورها، وهي من تقرر..!
ولا شك ان مستقبل الأمم المتحد يعتمد على الدور الأمريكي ومساهمتها التي ما زالت متواضعة، فالولايات المتحدة تريد أن تحول المنظمة الدولية كأحد آليات وأدوات سياستها الخارجية، وهذا وهم سياسي كبير.
وهناك تحدىات الأوبئة والحروب الإقليمية والأثنية والإرهاب وتراجع المنظومة الديمقراطية وتراجع سلم حقوق الإنسان وزيادة درجة الإنتهاكات لهذه الحقوق. وإنتشار الشعبوية والقومية على حساب العالمية والإنسانية، ودور الفواعل من غير الدول وخصوصا الجماعات المتشددة.
واخيرا، وكما يقول ريتشارد هاس، أن إصلاح الأمم المتحدة مطلب ملح لأن العالم لا يواجه إحياء التنافس بين القوى العظمى من جديد بل تحديات كثيرة تتعدى قدرة المنظمة. ويبقى أن نعرف ان الأمم المتحدة ليست حكومة عالمية تعلو إرادتها إرادة الدول الأعضاء، ولا هي هيئة تشرع قوانين ملزمه للدول. وتبقى ضرورية لتوفير مظلة الشرعية الدولية لكل الدول. والبديل لفشل الأمم المتحدة حرب كونية ثالثة تحصد كل الإنجازات البشرية والحضارية..!