المفزع والمؤلم فلسطينيا حالة الإحباط واليأس التي تسري في الجسد السياسي للقضية الفلسطينية والجسد البشري لكل شرائح المجتمع الفلسطيني.
أزمة مركبة معقده تختلط فيها معاناة السياسة وما تواجهه القضية الفلسطينية من محاولات التفكيك، وبسبب حالات السلام العربي مع إسرائيل و"صفقة القرن"، وبما تقوم به إسرائيل يوميا من إستيطان وإعتقال وحصار وحبس وتقييد لحرية المواطن الفلسطيني على أرضه. هذه الأعراض تتسبب بحالة اليأس والإحباط التى يعاني منها المواطن الفلسطيني ناهيك عن العلاقات الفلسطينية المتفسخة والمتشككة بسبب الإنقسام وما يتبعها من إعتقالات وتقييد للحريات.
هذه بعضا من أسباب اليأس على المستوى السياسي، فالمواطن الفلسطيني يحمل قضيته وتعيش معه أينما ذهب وحل حتى في غرفة نومه. اما الجانب الأخطر لحالة اليأس والإحباط على المستوى الجسدي الفردي للمواطن الفلسطيني، فعلى المستوى الحياتي وبسبب الاحتلال والفساد وتفاوتات مستويات الحياة التي يراها ويعيشها المواطن الفلسطيني: اكواخ من الصفيح بجانب فلل فارهة أشبه بالقصور، وسيارات فاخرة تجوب الشوارع في الوقت الذي لا يملك فيه المواطن العادي إلا رجليه للوصول لما يريد، ومن طوابير الإذلال للعمال الفلسطينيين، وإرتفاع نسب الفقر لتزيد في بعض المناطق كغزة التي يسكنها أكثر من مليوني نسمة على مساحة أقل من مائتي كيلومتر مخصص للسكن فقط نحو خمسين في المائة، ونسبة بطالة تقارب السبعين في المائة، أي أكثر من ثلثي السكان يعيشون بدون عمل، وخصوصا شريحة الشباب الأكبر حيث يخرج الشاب من الجامعة باحثا عن عمل وبناء أسرة فلا يجد إلا أبوابا مغلقة. وما بالنا بأب أسرة يطلب منه طفله شراء ثوب مثل الذي يلبسه طفل في سنه وبطعام يأكله غيره ولا يكون قادرا على تلبية حاجة طفله.. وبموظف ينتظر اقل من نصف راتبه كل فترة زمنية ليعيش على الدين والمساعدات، وليتحول الشعب إلى مجرد منتظر إلى مساعدة من هنا أو هناك..! وماذا تفعل الشواكل القليلة التي لا تلبي الحد الأدنى من الحاجات الإنسانية التي تضمن الكرامة الآدمية؟
أسباب اليأس والإحباط والتي تقود للإنتحار والعنف والثورة تتعلق بتراجع سلم القدرة والإستجابة مقابل سلم الحاجات المتزايدة، وهنا الإشكالية الكبرى ان سلم التوقعات والحاجات المتزايدة يتسع كل يوم ويتجه للأعلى لأسباب تتعلق بالحاجات نفسها وبعدد أفراد الأسرة وبطبيعة المجتمع الإستهلاكي للمجتمع الفلسطيني. اما سلم القدرة فهو في حالة تراجع دائم والأسباب كثيرة، يعضها يتعلق بالأداء الحكومي والفساد الإداري والتخمة البيروقراطية، وتفاوت مظاهر الدخل، وإنعدام فرص العمل، فثلثي الشعب الفلسطيني يقعون في شريحة الموظف والموظف الصغير، وهذا الموظف كما أشرنا لا يتلقى راتبه بإنتظام ناهيك عن ثبات هذا الراتب. وعدم قدرته، وأسباب تتعلق بعدم وجود وظائف عمل لآلاف الشباب، مما قد يدفعهم للإنخراط في الجماعات المتشددة، مما تزيد معه درجات العنف والتشدد والتطرف. هذا بالاضافة إلى ضعف القطاع الخاص وهروب معظم أصحاب رأسمال للخارج بحثا عم مناطق آمنة.
ويضاف إلى هذه الأسباب غلق كل أبواب الهجرة الخارجية والبحث عن أمكان للعمل، فكل ما يحيط بفلسطين من الدول العربية تعتبر اليوم مناطق طاردة للعمالة، وحتى الدول الخليجية لم تعد حاضنة للعمالة.. هذه الأبواب المغلقة للهجرة بحثا عن عمل، ولو مؤقت، تزيد من حالة الإحباط واليأس.
أسباب أخرى كثيرة للمعاناة واليأس والإحباط ملصقة بالمواطن الفلسطيني لأنه فلسطيني.. وقوفه على المعابر والمنافذ البرية والجوية والبحرية في العالم، وصعوبة حصوله على تأشيرات خروج بحثا عن العمل.. حتى الزيارات الإنسانية محرمة عليه. وكل ما يسمعه انه شخص غير مرغوب فيه، وكأن كل أوبئة العالم يحملها هذا المواطن..! وكأن الإرهاب كله هو الذي يتحمل مسؤوليته.. وحتى لو قتل طائر في اقصى بقاع الدنيا فالمسؤول عنه هذا المواطن الفلسطيني..!
هذه المعاناة غير المسبوقة في تاريخ البشرية كلها مرتبطة بالقضية الفلسطينية ومحاولة التخلص منها. والنتيجة الحتمية زيادة نسب الإنتحار والتشدد والعنف والغضب. والسؤال هنا وما العلاج والحل؟ هل ننتظر "غودو" الفلسطيني الذي لن يأتي. و"غودو" المنقذ "في إنتظار غودو" المسرحية المشهورة للأديب البريطاني صامويل بيكيت والتي كتبها أولا باللغة الفرنسية ثم ترجمت للغة الإنكليزية.
وتدور أحداثها بين متحاورين إثنين فلاديمير واستراغون يبحثان عن طريقة أو إنسان يخرجهما من بؤس الحياة الذي وصلا إليه، وفيما هما يتحاوران مر عليهما صبي قال لهما أن "غودو" سيحضر في اليوم التالي لإنقاذهما، مما أدخل الأمل والتفاؤل والطمأنينة إنتظارا لـ"غودو" المنقذ. وفي كل صبح يدور بينهما الحوار: فلاديمير: علينا ان نعود إلى هنا في الغد.
استراغون: لماذا؟
فلاديمير: لننتظر "غودو".
أستراغون: آه. ألم يأتي بعد؟
وهكذا يدور الحوار إلى ما لا نهاية. والدلالة العميقة ان "غودو" لن يأتي لأنه وهم، وأن التغيير يأتي من الداخل، من داخل أنفسنا.. هذه هي الرسالة للشعب الفلسطيني القوي، المنقذ يكمن في قوة هذا الشعب التخلص من الفساد والقيادات الفاسدة والإنقسام، وبهزيمة الفقر والبطالة، بالعمل والإنتاج.
لن ينقذ هذا الشعب إلا نفسه. وإذا لم يتحرك ويثور على كل اليأس ويستأصل الإستسلام داخله فستغرق السفينة في الكل. لا بد من كسر قيود الاحتلال وفك الحصار وهزيمة الإنقسام، ورفع الحصار وليعيش هذا الشعب في دولته المستقلة بكرامة وطنية.
رسالة لكل العالم.. لا تحولوا الشعب الفلسطيني إلى شعب من الإرهاب والتشدد والتطرف، وإذا أنفجرت قنبلته ستطال الجميع.. وسيظل "غودو" شخصا وهميا.. والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.