قد يتساءل البعض وما علاقة إسرائيل بالإنتخابات الفلسطينية؟ أليست شأنا فلسطينيا داخليا؟ والسؤال الثاني متى كان الشأن الفلسطيني داخليا وكل الأراضي الفلسطينية تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي ويتحكم في كل منافذها وخارجها ومن يدخل ومن يخرج؟
وكما هو معلوم أن الانتخابات بيئة سياسية شاملة، وهذه البيئة إسرائيل من تتحكم في مدخلاتها ومخرجاتها. ومن هذا المنظور تعتبر الانتخابات الفلسطينية حالة غير مسبوقة وإستثنائية بسبب ظروفها القسرية، وتعتبر إسرائيل العامل الحاضر الغائب.
والإنتخابات تعني برامج سياسية ورؤى سياسية للقوى الفلسطينية المتنافسة وخصوصا حركتي "حماس" و"فتح"، وما مدى توافق هذه البرامج السياسية واهداف السياسة الإسرائيلية؟ وكيف ستتعامل هذه البرامج السياسية مع إسرائيل وكيف تصفها وتراها؟ وهل من مصلحة إسرائيل إنجاز إنتخابات ديمقراطية تنتهي بنظام سياسي ديمقراطي ينزع من يديها الكثير من الأوراق وأهمها وصف النظام السياسي الفلسطيني انه غير ديمقراطي وغير مؤهل للتفاوض والسلام معه، إنطلاقا من رؤية نتنياهو ان السلام لا تعرفه إلا الدول الديمقراطية..!
لا يمكن إجراء الانتخابات الفلسطينية إلا بموافقة إسرائيلية لتحكمها في أوراق كثيرة يمكن أن تعطل معها الانتخابات وخصوصا في الضفة الغربية، بتحكمها بالحواجز بين منطقة وأخرى ومن ثم عرقلة وإعاقة الحركة اللازمة لتسيير الإنتخابات وقدرتها في إعتقال أي شخص، وإعتقال من ينتمون لحركة "حماس" وحتى لأي فصيل آخر، ومنعها من إجراء أي شكل من الإنتخابات في القدس لدرجة قد تذهب معها في تهديد سكان القدس أن من ينتخب سيفقد حقه في البقاء في المدينة وسيحرم من مواطنتها..!
ومن مظاهر تحكم إسرائيل إعتراضها على البرامج السياسية واللقاءات الجماهيرية الضرورية بين المرشحين المتنافسين وقواعدهم الشعبية. وهذا يتطلب موقفا دوليا قويا وضاغطا على إسرائيل وخصوصا من الدول العربية التي لها علاقات اليوم مع إسرائيل.
والسؤال ثانية ماذا تريد إسرائيل من الانتخابات الفلسطينية الثالثة؟ لو عدنا إلى الوراء قليلا وتساءلنا لماذا وافقت على الانتخابات الأولى والثانية، علما ان الثانية كانت بمشاركة حركة "حماس"؟ في الانتخابات الأولى، وقد كانت ضرورية لإسرائيل وشرطا لإتفاقات أوسلو بوجود سلطة فلسطينية منتخبة يكون لها القرار السياسي وتضفي شرعية على إتفاقات "أوسلو"، وتنشئ مؤسسات سلطة تقوم بتنفيذ إتفاقات "أوسلو" والتنسيق مع المؤسسات الإسرائيلية، وخصوصا في المجال الأمني والإستخباراتي. الفلسطينيون عندما وافقوا على هذه الانتخابات رغم علمهم بكل هذه القيود كان هدفهم أن تكون لهم سلطة شرعية رئاسية وتشريعية تمهيدا لتحولها إلى مؤسسات دولة، ولكن إسرائيل عندما بدأت تدرك ان الفلسطينيين كانوا يعملون على تفعيل هذه المؤسسات وتطويرها كمؤسسات دولة وضعت العراقيل والتحديات حتى تجعل من السلطة ومؤسساتها تابعة ضعيفة هشة.
إذن الهدف من الانتخابات الأولى مع ملاحظة انها كانت انتخابات لحركة "فتح" كلها الهدف منها إضفاء الشرعية على إتفاقات "أوسلو". اما الإنتخابات الثانية وهنا المفارقة السياسية انها تمت بمشاركة مباشرة من قبل حركة "حماس" وبمرشحين لها في الضفة الغربية تحركوا علانية فكانت أسماؤهم معروفة لإسرائيل، وهذا أحد الأهداف لها، أن تعرف وتتعرف على كل القيادات التابعة للحركة ومراقبة حركتهم فيما بعد، وتمكينها من إعتقالهم إذا إقتضى الأمر، وهو ما حدث فيما بعد.
الهدف الثاني للموافقة على مشاركة "حماس" معرفتها وتوقعاتها المسبقة ان حركة "حماس" ستفوز وبأغلبية كبيرة، وهذا يعني بداية إنقسام البنية السياسية الفلسطينية بين الحركتين المتنافستين "فتح" و"حماس" تمهيدا لذهاب حركة "حماس" للتفرد بغزة، وهو ما تم بإنقلابها وسيطرتها على غزة بعد عام واحد من الانتخابات، أي ان الهدف واضح وهو تهيئة البيئة السياسية الفلسطينية للإنقسام والإنفصال.
اما الهدف الثالث محاولة دفع حركة "حماس" للعمل السياسي الفلسطيني المعلن ومن ثم التدرج في تحولها لحركة سياسية هدفها الحفاظ على السلطة والحكم وهو ما يسمح لإسرائيل لممارسة ضغطها على الحركة وصولا لتفاهمات سياسية مستقبلية. حتى الحروب الثلاث التي وقعت بعد سيطرة "حماس" لم يكن الهدف منها التخلص من الحركة وعودة السلطة بقدر ما كان ترويض "حماس" وإضعافها وإحتوائها بعقد إتفاقات تهدئة، وجعل غزة أكثر إعتمادا على إسرائيل في الحصول على إحتياجاتها الغذائية والوقود والتنقل من داخل غزة وخارجها، وكلها أوراق سياسية يمكن لإسرائيل أن تمارسها على "حماس" مع تعميق حالة الإنقسام.
ونأتي للإنتخابات الثالثة إذا عقدت.. ما هو موقف إسرائيل منها؟ وماذا تريد منها؟
تأتي الانتخابات الثالثة إذا تمت بعد خمسة عشر عاما من الإنقسام، وتحولها لبنية سياسية كاملة تتبع حركة "حماس"، ومحاولة كل من "فتح" و"حماس" الحفاظ على إنجازاتهم سواء بالإنتخابات أو بدونها، بمعنى ان الإنتخابات لن تمس الإنجازات التي تحققت لكل منهما، وثانيا ان هذه الانتخابات تأتي في ظل بيئة سياسية عربية وإقليمية ودولية تعمل لصالح إسرائيل مما يعني انها ستكون اقل ضغطا عليها، وتأتي في ظل التوجهات نحو السلام الإقليمي العربي الإسرائيلي. إسرائيل إبتداء لن تمانع في إجراء الانتخابات لكن بشروطها، وفي مقدمتها إستبعاد القدس كلية عن الانتخابات. والإعتراض على البرامج السياسية لبعض الفصائل إذا ذهبت بعيدا في بنودها فيما يتعلق بقضايا السلام والتسوية والمفاوضات والمقاومة.
هدف إسرائيل ليس عودة الوحدة الفلسطينية وإلغاء الإنقسام، بل قد يكون هدفها بالإعلان الرسمي بتحول الإنقسام إلى حالة سياسية مستقلة تماما وذلك من خلال فشل الانتخابات او عدم القبول بنتائجها، وتريد إسرائيل من أي حكومة إئتلافية في حال تشكلها ان تلتزم بالسلام والتفاوض مع إسرائيل وهذا ما تريده من حركة "حماس": الإعتراف الرسمي بإسرائيل عبر الانتخابات والمشاركة في حكومة فلسطينية لن تستطيع أن تعمل بدون موافقة إسرائيل. هدف إسرائيل من هذه الانتخابات التي قد تعتقد ان ستكون الأخيرة العمل على التخلص من القضية الفلسطينية وتحولها نهائيا إلى حالة نزاع ثنائي فلسطيني.
لا شك ان هذه الانتخابات تأتي في سياق إستثنائي غير مسبوق في كل تجارب التحرر الوطني لأنها تتم في ظل الاحتلال الإسرائيلي لكل الأراضي الفلسطينية، ولا توجد انتخابات بدون حرية الحركة على الأرض، ومن ثم سوف تأتي منقوصة في أهدافها ونتائجها الفلسطينية. ويبقى الخوف ان تكون هذه الانتخابات من منظور إسرائيل إمتدادا للإنتخابات الثانية التي تنتهي بالفصل السياسي الكامل، وهو اقصر الطرق لتفكيك القضية الفلسطينية وتحولها للحلول الإقليمية..!