إسرائيل الثابت الوحيد في السياسة الأمريكية منذ 1948، فالقاسم المشترك بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي هو الإلتزام بأمن وبقاء إسرائيل. ومع كل انتخابات أمريكية يتجدد هذا الإلتزام، ويتسابق المرشحان للرئاسة على الذهاب بعيدا في هذا الإلتزام، ولعل ذلك يعزى إلى ان إسرائيل ومنذ ذلك الوقت تعتبر قضية محلية مثلها مثل أي قضية داخلية، وهذا لأسباب تتعلق بمكونات السياسة الأمريكية والدور الذي يعلبه الإنجليكيون الذين يزيد عددهم عن ستين مليونا وبقوة اللوبي الصهيوني ودور الصوت والمال اليهودي، اضف إلى الإعتبارات الإستراتيجية والدور الذي تلعبه إسرائيل في تحقيق المصالح الأمريكية العليا.
ومن هذا المنظور تربط الولايات المتحدة علاقاتها بفلسطين والدول العربية بمدى تقربها وإبتعادها عن إسرائيل، وهذا قد يفسر لنا التوجه نحو السلام مع إسرائيل. وقد تكون إدارة الرئيس ترامب الأكثر تأييدا وإنحيازا نحو إسرائيل وامتازت بقرارتها الخاصة بنقل السفارة الأمريكية للقدس وبـ"صفقة القرن" وبوقف المساعدات عن السلطة ووكالة الغوث ودعم الإستيطان والدفع بقيام سلام إقليمي عربي إسرائيلي.
ولعل اول تساؤل بعد فوز جو بايدن: ما هو الموقف من هذه القرارات؟ وهل يمكن تصور التراجع عنها؟ وإلى أي مدى سيكون الإلتزام بالموقف الفلسطيني؟ والإجابة على هذه التساؤل تستدعي التعرف على مواقف بايدن السابقة والحالية والمستقبلية.
إبتداء، وكما أشرنا أن إسرائيل قضية محلية ولها الأولوية فهذا يعني ان مسألة الإلتزام بأمن إسرائيل والحفاظ على بقائها وتفوقها سيحظى بنفس الأولوية مثل قضية الوباء او الأزمة الاقتصادية، فستبقى قائمة على أجندة الرئيس بايدن وإدارته بعكس القضايا الأخرى التي قد لا تحظى بنفس الأولوية، وقد لا نرى فيها قرارات سريعة، ولهذا سيرتبط بهذا الإهتمام الملف النووي الإيراني بما لها من أولوية وإهتمام إسرائيلي. إذن هاتان هما القضيتان الرئيستان العلاقات مع إيران وإسرائيل.
وتأكيدا لهذه الفرضية أشير إلى ما كتبه الصحفي والباحث الإسرائيلي شموئيل روزنر في مقالة له في "نيويورك تايمز" أنه وجد خمس إشارات عن علاقة بايدن بإسرائيل تعود لعام 2008 أولا خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي ومنافسته أوباما على ترشيح الحزب، ثم الإنتخابات العامة عندما كان ينافس كنائب رئيس، إذ أن بايدن كل ما أحتاج إليه التأكيد على إلتزامه الطويل بامن إسرائيل. وهذا ما أكد عليه ويبدأ بالقول أنه عرف كل رئيس وزراء إسرائيل منذ غولدا مائير ولقائه بها عام 1973. ويروي الصحفي ما أخبرت به مائير ان إسرائيل لها سلاح سري، متوقعا أن يكون قنابل وذخيره أجابته سلاحنا السري أيها السيناتور هو أنه ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه. ورد عليها: إسمي جو بايدن والجميع يعرف أنني أحب إسرائيل. ووصف اللقاء بأنه "واحد من أكثرالإجتماعات التي لا تنسى في حياتي".. ويؤكد الصحفي أن مشاعر بايدن ليست مجرد إقناع جماهيري وإنما مشاعر حقيقية.
ولا شك أن الولايات المتحدة هي الحليف الإستراتيجي لإسرائيل، وبدون هذا التحالف تبدو إسرائيل ضعيفة. وقوله لنتنياهو "أنا لا أتفق مع أي شيء تقوله لكني أحبك"، وهذا الذي دفع نتنياهو في تهنئتة للتذكير بهذا الدفء والحب في العلاقات. وكما قال الصحفي روزنر "بايدن نعرفه ويعرفنا. وقد اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل قبل عقدين من ترامب، وايد مشروع قانون في مجلس الشيوخ عام 1995 لإقامة سفارة أمريكية في القدس بحلول عام 1999. ولذلك لا يمكن من هذا المنظور توقع أو تصور تراجع بايدن عن القرارات التي أتخذها ترامب بشأن القدس. وإنتقاده لإسرائيل يأتي في سياق حبه بقوله: إسرائيل دون ديمقراطية تسير بالإتجاه الخاطئ. ومستحيل ان تكون هناك إسرائيل ديمقراطية بأغلبية عربية. هو يدعم إسرائيل كدولة يهودية مستقلة. وبإعتباره نائبا للرئيس ساعد في عام 2016 في حصول إسرائيل على أكبر حزمة مساعدات أمريكية على الإطلاق بقيمة 38 مليار دولار، علما ان فترة رئاسة أوباما ونائبه بايدن كانت الأكثر نشاطا للإستيطان.
وفي وصفه لحبه لإسرائيل يقول أنه قد ورث حب إسرائيل من أبيه. وقال مقولته الشهيرة عام 1986 انه "إذا لم تكن إسرائيل موجوده فستضطر الولايات المتحدة إلى إختراع إسرائيل لحماية المصالح الأمريكية". ووقتها كان عضوا في مجلس الشيوخ. وتوالت تصريحاته التي تؤكد على إلتزامه وحبه: إذا كنت يهوديا فسأكون صهيونيا.. وإسرائيل ضرورية لأمة اليهود حول العالم.
ولكن صحيفة "هآرتس" تؤكد توجد علاقة طويلة بين بايدن وإسرائيل ولكنها معقدة إلى حد ما. ورغم التوتر في العلاقات بين إدارة أوباما وونتنياهو وخطاب الأخير في الكونجرس متجاوزا أوباما لكن بقيت علاقات بايدن جيدة مع إسرائيل. هذا ويفصل بايدن بين إحتمالات الخلاف مع الحكومة الإسرائيلية وبين الإلتزام الدائم بدعم إسرائيل عسكريا وإقتصاديا. ومن مظاهر قوة العلاقة الشخصية بإسرائيل أن إبن بايدن متزوج من يهودية وإبنته متزوجة من جراح يهودي.
ولا تتوقف تصريحات التأييد والدعم على بايدن، بل إن نائبته هاريس وفي خطاب لها أمام "أيباك" أكدت على عمق هذه العلاقات. ووصفت هذه العلاقات "أنها غير قابلة للكسر.. ولا ينبغي أن تكون إسرائيل قضية حزبية على الإطلاق، وسأفعل كل ما في وسعى لضمان الدعم الواسع لأمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها". وعندما سئلت ما إذا كانت إسرائيل تفي بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان قالت "نعم".
وفي توصيفه لهذه العلاقات يقول تامير نداف دبلوماسي سابق وكان مستشارا لشمعون بيريز عن بايدن سيفعل أفضل بكثير من ترامب في المنطقة، لأنه يدرك أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلى ليس معادلة نتيجتها صفر.. أما الداد شافت من معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب يقول لا يمكن التغاضي أن هناك مشكله بين المسؤوليين الديمقراطيين والإسرائيليين. والخلاصة انه سيتنبى سيناريو التهدئة مع إسرائيل، وسيناريو طمأنة الفلسطينيين. وسيبقى داعما قويا لإسرائيل مع ترك الخلافات مع إسرائيل طي الكتمان. فخلال الإنتفاضة الثانية مثلا رفض بشكل قاطع إدانة الضربة الصاروخية على نابلس 2001 وأدت لقتل طفلين قائلا "الخلافات يجب مناقشتها في جلسات خاصة"، رغم إدانة جورج بوش الابن لها.
ويبقى أخيرا ما إذا كان بايدن قادرا على تبني موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل. والإجابة تبقى مفتوحة، وكما يقول تامير نداف "عليه أن يدفعنا لأن النظام السياسي الإسرائيلي وصل لطريق مسدود إلى درجة لا يمكنك التوصل إلى إتخاذ قرار تاريخي دون أن يتم دفعك". وكل ما يمكن توقعه انه سيتمسك بإستراتيجية العصا من المنتصف دون حل نهائي في فترة إدارته القصيرة، التي ستكون مزدحمة بقضايا وتحديات داخلية أكبر وسيبقى تحدي إستعادة قوة النموذج الأمريكي له الأولوية على ما دونها.