تستلهم النزاعات الدولية المركبة والمعقدة كالصراع الفلسطيني الإسرائيلي الفلاسفة والمنظرين بحثا عن الحلول، ومن أبرز هذه النظريات نظرية الحاجات الأساسية لطرفي النزاع.
والسؤال هنا ما هي هذه الحاجات الأساسية؟ وهل من تشابه بينها؟ وآليات الإستجابة.
ومن أبرز أنصار هذه النظرية جوهان جالتونج الذي يرى أن اهم الإحتياجات الإنسانية السلام وبناء السلام بين الدول والشعوب، وأن أساس عملية فهم السلام العمل على التغيير في أسس بناء العلاقات الإنسانية من منظور الحاجات الإنسانية. فالسلام حاجة إنسانية فطرية غزيزية، وتعني البقاء والتعايش المشترك، وهما من أبرز الحاجات الإنسانية. فالأساسس في خلق الكون والإنسان الحفاظ على الحياة والجنس، ولذلك الحرب والصراع نقيض لهذه الغريزة.
وترى هذه النظرية أن النزاعات والصراعات الدولية تتفاقم عندما يصل الإنسان إلى قناعة أن حاجاته الإنسانية الأساسية مهدرة ولا يتم الإستجابة إليها، ولا يتم إشباعها بفعل عوامل السيطرة والإحتلال والخضوع، او حتى بفعل أنظمة مستبدة داخلية.
وهذه النظرية تم تطبيقها على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبذلت جهود دولية كبيرة والعمل على بناء بنية تحتية قادرة على تلبية الإحتياجات الإنسانية للإنسان الفلسطيني، وهي ليست قاصرة على الحاجات الفلسطينية بل أيضا الحاجات الإسرائيلية، ورغم العلاقات غير المتكافئة بين الطرفين بسبب الاحتلال وإختلال معادلة العلاقات الطبيعية، فإسرائيل تتحكم في كل الموارد وعناصر القوة التي تتحكم في تلبية الحاجات الإنسانية للإنسان الفلسطيني، والخطأ الإستراتيجي الذي أرتكبته أنها وظفت هذه القوة في مزيد من الضغط على السلطة والإنسان الفلسطيني حتى يقبل ويستسلم بواقع الاحتلال وما تفرضه من سياسات إستيطانية.
بداية، نحن في حاجة لتحديد الخارطة الإنسانية لسلم الإحتياجات لطرفي الصراع المباشرين وعلى المستوى الأوسع والأشمل للصراع العربي الإسرائيلي. وإبتداء ينزع السلام العربي من إسرائيل أي مبررات لعدم إستجابة الدول العربية لحاجاتها للأمن والقبول بها دولة عادية وبقائها كأي دولة عربية أخرى في المنطقة، وبالمقابل الدول العربية في حاجة للأمن والإستقرار والتنمية وإستئصال جذور العنف والإرهاب. ولذلك على إسرائيل أن تستجيب، كما استجابت الدول العربية، لهذه الإحتياجات من خلال بناء السلام الشامل الذي يكتمل على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بقيام الدولة الفلسطينية ووضع نهاية لعقود طويلة من الحروب والصراعات والكراهية والحقد والثأر.
ولعل المستوى الأساس لهذه النظرية يتمثل في شقه المباشر الفلسطيني -الإسرائيلي. وهنا نحن أمام نموذج معقد.. شعبان يتعايشان ويتصارعان على نفس الأرض، والواقع يفرض الإعتماد المتبادل والتفاعل الإيجابي والبحث عن صيغ للإستجابة للحاجات الإنسانية. وهنا علينا أن نميز بين الإحتياجات الأساسية والمتطلبات الحياتية اليومية والتي تتمثل في توفير أسباب الحياة من عمل وحاجات مادية وإقتصادية وإجتماعية، والعمل معا من خلال مشاريع مشتركة للتغلب على الفقر والبطالة.
ولو نظرنا للجانب الفلسطيني فأكثر من خمسة ملايين نسمة يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولا يستطيعون الإنتقال بحرية من مكان لآخر إلا عبر حواجز عسكرية إسرائيلية.. المواطن الفلسطيني في حاجة أن يعيش بحرية وكرامة وطنية وآدمية، وان تكون لديه القدرة على بناء بنيتة التحية ونظامه السياسي القادر على التكيف والفاعلية والإستجابة للحاجات التي ترتفع بشكل كبير مما قد يخلق فجوة بين الإستجابة والقدرة، وهذه الفجوة إن لم يتم تضييقها فقد تدفع للتأزم والتوتر ولتصعيد وإستمرار النزاع في أشكال مختلفة.
ومن اهم الحاجات الإنسانية الحاجة للحفاظ على الهوية الوطنية وبناء الدولة الفلسطينية المعبرة عن هذه الهوية، وهذا لن يتحقق إلا بإنتهاء الاحتلال الإسرائيلي وكل السياسات التي تهدد هذه الهوية كالإستيطان والضم وتهويد الأرض بما لا يسمح ببناء هذه الهوية.
وبالمقابل لإسرائيل حاجاتها الأساسية التي تتمثل بالأمن والبقاء، وهو يتطلب الإستجابة لهذه الحاجة في إطار تبادلي تكاملي، هذه الإستجابة من شأنها ان تضع حدا لسلم الكراهية والعنف وتنزع كل المبررات أمام الجماعات المتشددة من أى طرف.
في هذا السياق العام لنظرية الحاجات الأساسية عملت الدول العربية وفي مقدمتها دول الخليج العربي على تقديم الدعم والمساهمات المالية الضروية لبناء السلطة وإقامة المشاريع الإقتصادية وتوسيع البنية الاقتصادية القادرة على إستيعاب الحاجة للعمل المتزايدة من قبل شريحة الشباب الأكبر. وفي السياق نفسه قدم الإتحاد الأوروبي الدعم لتحقيق الهدف نفسه، وقد وصلت هذه المساعدات حسب التقديرات إلى ما يقارب الخمسين مليار دولار أمريكي.
ولأسباب تتعلق بأداء السلطة الفلسطينية والإحتلال لم تحقق هذه السياسات الداعمة الهدف منها بالإستجابة للحاجات الأساسية والتي تشكل دافعا قويا لخلق البيئة السياسية الحاضنة للسلام وبناء سلام مستدام.
ولعل من أكثر التحديات التي تواجه عملية الإستجابة النفقات العسكرية والانفاق على التسلح والتي تأتي على حساب بنية السلام. والحاجات الأساسية لا بديل لها في أساس عملية بناء سلام مستدام، أما المتطلبات الحياتية فتشكل القوة المساندة والداعمة للحاجات الأساسية، وهي السبيل لها، وكلها تشكل منظومة متكاملة لا يمكن الإنفصال بينها.
ولعل التحدي الأكبر الذي يواجه عملية بناء السلام الشامل على المستوى الفلسطيني الإسرائيلي يتمثل في إشكالية وتضارب الحاجات الأساسية لهما فالتنازع على نفس الأرض وعلى هويتها، وهذا يتطلب حلولا إبداعية خارج الصندوق وبتفكير غير تقليدي يلتقي في إشباع الحاجات الأساسية لأي منهما. ومن هذا المنظور قد يشكل السلام العربي الإسرائيلي أحد أهم المقاربات لحل هذه الإشكالية والتصادم من خلال.. أولا إنهاء الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية السلمية والمستوى الثاني من خلال تبني المشاريع المشتركة التي تحل مشكلة هوية الأرض وبقدر إستجابة الأرض لحاجة الهوية والإنتماء بقدر حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.