أغلب الظن ان الشعب العربي الفلسطيني غدا أسير أفكار مسيّسة مبرمجة حشدت وحشرت في عقله، لتفقده إرادته الوطنية، وتكبح جماح شرعيته، وتنفي حقوقه الوطنية، وتسلب مقدراته. فغدا السياسي والتنظيمي ورجل الشارع والمهني والنقابي، يحيل القضية الفلسطينية وكل ما يحدث فيها أو يلامسها، على هذه الأفكار والاعتماد كلية على القانون الدولي العام وتفرعاته والاستنجاد بمبادئه وحده دعما لحقوقنا المشروعة، والسير على طريقه الوحيدة الموصدة، علّه في نهاية المطاف يحقق لنا ما لم تحققه أية وسيلة أخرى، وكأنه المنقذ الكبير الذي لا غنى عنه.
هذا وهم كبير أخذ يعشعش في عقولنا وتصرفاتنا ويومياتنا. فلا يصدر بيان ولا تصريح ولا إعلان بدون إحالة على القانون الدولي وأنظمته وكأننا أمام شعر تفريغي، يعطيك أجمل الكلمات ليتركك تنام نومة أهل الكهف بدون معطيات عملية على أرض الواقع.
ويبدو أننا كنوع من الشوفينية التي نجيدها، نحيد عن سنة بقية الدول، ونتبنى نهجا لم تأخذ به أية دولة سوى المستسلمة المنكسرة. وبقراءة بسيطة للتاريخ القديم والحديث، لا نجد دولة عولت على القانون الدولي العام لوحده لحل مشاكلها ووجودها وكينونتها مثلما نفعل نحن. حتى القانون الدولي العام نفسه وتكوين قواعده، لم يكن إلا إفرازا لعناصر القوة المجتمعة، وليس إفرازا لعنصر واحد من عناصر القوة مهما بلغ شأوه وعظمته.
وللعلم، فقد أنكر بعض فقهاء القانون المميزين في البدايات قانونية القانون الدولي العام، بل ذهبوا لإنكار طابعه القانوني الملزم. ورأوا فيه قواعد سياسية وعلاقات أخلاقية ليس لها طابع الإلزام بين الدول. ولن أدخل في جدل فقهي حول طبيعة هذا القانون، لكنه ببساطة مختلف عن القانون الداخلي وبخاصة من حيث سنّه ومحاكمه وجزائه وطبيعته.
فالقانون الداخلي والذي يسمى تشريعا، تسنه السلطة التشريعية التي تمثل الشعب في داخل الدولة وتنفذه سلطة تنفيذية، بينما لا توجد سلطة تشريعية دولية ولا سلطة تنفيذية لتحل محل البرلمان المحلي، حتى لو اسرفنا في الخيال في القيمة القانونية للمعاهدات سواء أكانت ثنائية أو إقليمية أو عالمية. كما أن كل دولة من دول هذا العالم فيها من المحاكم على اختلاف أنواعها ما يكفيها، لفض المنازعات على اختلاف طبيعتها، وإصدار الأحكام لتنفذ بالقوة إن لزم الأمر وتحقيق العدالة. وهذا أمر مفتقد في الساحة الدولية إلا طواعية وبرضاء الطرفين الدوليين المتنازعين، رغم وجود محكمتين اثنتين قابعتين في لاهاي، لدول العالم أجمع مع عدد من القضايا القليلة. فضلا عن أن القانون أو التشريع يضم بين جنباته جزاء مؤلما ماديا حالا يوقع في الحياة الدنيا لكل من تسول له نفسه أن يخالف هذا القانون أو التشريع، بينما تخالف الدول القانون الدولي ولا تخاف جزاءه ولا ترهبها محاكمه ولا تخشى تهديداته رغم وجود الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة.
وهناك أمثلة كثيرة على ما نقول بل ذهبت الدول وبخاصة المعتدية، إلى تجاوز القانون الدولي العام بكل فروعه وقامت بالاعتداء عليه بلّيه وخرقته مرارا وتكرارا، دونما رادع أو خشية من القانون ذاته. ولعل حالتنا الفلسطينية أوضح وأسطع مثال على ما نقول. وما جرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحروب لاوس وفيتنام في جنوب شرق أسيا، والغزو الأمريكي للعراق وافغانستان، وحروب امريكا الجنوبية في تشيلي وفنزويلا والأرجنتين، وحروب القارة الأفريقية من الكونغو للجزائر إلى نيجيريا وساحل العاج، أمثلة أخرى على فشل القانون الدولي. وما قامت به أمريكا من رفض لقرار محكمة العدل الدولية في عام 1986 في قضية "الكونترا"، وما قام به دونالد ترامب أخيرا وهو الخارج من منصبه، من الدوس على قرارات الأمم المتحدة بشأن حق تقرير المصير الذي يعتبر قاعدة آمرة في القانون الدولي العام في الصحراء الغربية والبوليساريو، خير دليل على ما نقول. بل إن ما يسمى بمحكمة العدل العليا الإسرائيلية لم تنصع لرأي محكمة العدل الدولية عام 2004 بشأن جدار الفصل العنصري.
لو كان في القانون الدولي العام خيرا لوحده، لما كان هناك قضية فلسطينية ولوجدت حلا عادلا لها منذ أمد بعيد. لو كان القانون الدولي نافذا لمنع إسرائيل من إبعاد مئات الفلسطينيين عن أراضيهم، ومنعها من هدم منازلهم كعقوبة جماعية محظورة في القانون الداخلي والدولي، ولمنعها من سحب بطاقات هوية المقدسيين وأبنائهم، وفرض الضرائب الإسرائيلية الجديدة عليهم، ولمنعت ضم القدس فعليا وقانونيا، ولحظرت خضوع المقدسيين للتنظيم والبناء الإسرائيليين، ونفذت قرار التقسيم وتدويل القدس وحق تقرير المصير للفلسطينيين.
رب قائل، أولم تصدر المحافل الدولية والأمم المتحدة من جمعية عامة ومجلس أمن ومحكمة عدل دولية، واليونسكو، قرارات وتوصيات تدين فيه الخطوات الإسرائيلية التي تعتبر جرائم حرب. هذا امر صحيح، لكن هذه القرارات والتوصيات بقيت حبرا على ورق ومركونة على الرف بدون خطوات عملية تنفيذية. حتى المحكمة الجنائية الدولية التي عولنا على دورها كثيرا تخشى نطبيق القانون الدولي العام حينما يتصل الأمر بإسرائيل، تماما مثلما حينما يتعلق الأمر بشخص متنفذ في القانون الداخلي. بل ذهب وزير الخارجية الأمريكية بومبيو إلى تهديد قضاة هذه المحكمة ونيابتها العامة بخطوات وقحة تخرق قواعد القانون الدولي. وللأسف لم تتحرك المحكمة الجنائية الدولية ولو ببيان أو بتصريح، حيال هذه الإتهامات والتخرصات.
هنا يجب أن ننوه أن القانون الدولي العام بكل فروعه، هو في نصرة المظلوم والضعيف وحقوق الإنسان والدولة القانونية، بعد أن كان العكس صحيحا قديما، لكنه يفتقد للآلية التنفيذية المحايدة لجعل قواعده أمرا متاحا. فمنع الحرب والضم وعدم جواز كسب أراضي الغير بالقوة المسلحة وحظر الغزو ورفع القيمة القانونية لحق تقرير المصير واسرى الحرب وقواعد جنيف ولاهاي في الحرب واشباهها، كلها قواعد رفيعة وجميلة. لكنها تبقى خالية من المؤيد الجزائي التي تأتي بالحقوق واقعا وتمنع استلابها فعليا.
لا جدل أن قواعد القانون الدولي العام، تشكل مرجعية معتمدة في المحاكم الدولية والمجتمع الدولي ، وتحل كثيرا من المنازعات الدولية، رغم اختلاف التفسيرات القانونية، إلا أنها تبقى وسيلة من وسائل تحقيق الحق، فهي تفتقد عادة للجزاء التنفيذي العملي، وبذا تغدو كالقاعدة الأخلاقية غير الملزمة. وهنا لا تلتزم الدولة المعتدية بهامثل إسرائيل تفر من إلتزاماتها الدولية بالإنصياع لها. وبالتالي يجب عدم التعويل عليها وحيدة.
تتعدد وسائل القوة التي تفرز حلا عادلا في أي صراع، فمنها القانوني ومنها الاقتصادي ومنها العسكري ومنها الديني ومنها الأخلاقي ومنها الدولي. وبتضافر هذه العناصر وغيرها يفرز حل فالمقدمات تخلق النتائج، وليس هناك عيون زرق في السياسة الدولية بل مصالح وقوى. وليس هناك عنصر وحيد ولو كان القانون الدولي العام كفيل بحل القضية الفلسطينية حلا عادلا. ويكفينا ما اصبنا به من خلال "صفقة القرن" فالعيون الكثيرة ترى ما لا تراه العين الواحدة..!