في مقالة له في مجلة "فورين أفيرز" قال الدبلوماسي الأميركي ريتشارد هاس: يجب أن نبرهن للعالم أن الولايات المتحدة مستعدة للقيادة ثانية، ليس بنموذج قوتنا فحسب بل بقوة نموذجنا أيضا. وأن التحديات أمام أمريكا تعاظمت بتقدم السلطوية والقومية واللا ليبرالية. وأضاف ريتشارد هاس مذكرا بعنوان دين أتشيسون "حاضر عند الخلق" ليقول ترامب: حاضر عند التمزيق، وإذا فاز حاضر عند الخراب.
ولعل خسارة ترامب اكبر الفائزين فيها الديمقراطية الأمريكية والنموذج الأمريكي، ولسبب بسيط تأصيل الشعبوية كمذهب يناقض قيم النظام الديمقراطي. ولا شك أن أمريكا تعاني من أزمة إجتماعية، وكما يقول يوفال ليفين من مؤسسة أميركان إنتربراز، لا يستطيع أي رئيس حلها.
والرئيس المنتخب بايدن قد يكون إمتدادا للرئيس كيندي الرئيس الخامس والثلاثين والذي أغتيل في 22 نوفمبر 1963 ولم يكمل رئاسته، وكان هدفه إثارة النفوس لدى المواطنين الأمريكيين، والعمل من أجل مستقبل البلاد ورفع راية السلام، وسعى من خلال حكمه إلى توحيد البلاد وعبارته المأثورة للمواطن الأمريكي: كيف تحب أمريكا.. فتجربة بايدن على مدار 78 عاما خلقت منه شخصية صلبة ومتواضع وواقعي، ونتاج المؤسسسة الأمريكية التقليدية، خسر معركة الرئاسة مرتين، وعمل نائبا في مجلس الشيوخ وترأس لجنة العلاقات الخارجية وعمل نائبا للرئيس أوباما. وهنا يجب الإشارة إلى نقطة مهمة في شخصيته.. المبادأة والرغبة في القرار، ولم يستطع أن يمارسهما وهو نائب والآن وهو رئيس يملك كل السلطة والصلاحيات.. يدرك انه قد لا يحكم ولن يحكم إلا فترة رئاسية واحدة ولذلك هذا عامل مهم في تحديد معالم سياسته القادمة.. انه يريد أن ينجح أولا وسيكون صلبا مرنا في القرار. ويدرك ان المؤسسة تستوعب الجديد وتهضمه.
ويلعب البعد الشخصى دورا مهما في رؤيته وخصوصا عامل العمر الذي يمحنه الخبرة والحكمة، والقلق أن يتمسك برأيه بسبب هذا العامل. ويؤمن بقوة أن لأمريكا دورا قياديا عالميا يستند على تحالفات أمريكا التقليدية وخصوصا أوروبا، وأن تكون أمريكا على رأس هذه التحالفات أو من تقودها. ويمتاز بأن لديه رؤية شمولية على مستوى كل مناطق العالم الإستراتيجية وخصوصا منطقة الشرق الأوسط. واليوم هو رئيس للولايات المتحدة صاحب القرار وكل المستشارين مساعدين يضيفون عيونا وآذان له، لكن في النهاية تبقى أذن واحدة وعين واحدة من تقرر، وينظر للعالم من أعلى قمة النظام الأحادي الذي ما زالت تتحكم فيه. ومن أقواله: قال لي أبي يا جو أنت تستطيع أن تغير العالم لكن لا بد أن تتمسك بإيمانك.
ومن عناصر قوته والتي لم تسبق لأي رئيس عدد الصوت الشعبي الذي تجاوز الـ 82 مليونا وعدد 232 ممثلا من الهيئة الانتخابية، وهذا يمنحه تفويضا شعبيا كبيرا في رسالته التي يرفعها بدلا من شعار "أولا أمريكا" لشعار "روح أمريكا الواحدة".. وإستعادة بريق ووهج النظام الأمريكى بالتصدي للشعبوية والقومية البيضاء العنصرية.
ومن الخطأ الإعتقاد والتسليم فقط ان أمريكا دولة مؤسسات ثابتة، وان ثوابت سياستها الخارجية ثابته لا تتغير. السياسة تحكمها متغيرات وعوامل متغيرة ومتسارعة، وبالذات في السياسية الكونية للولايات المتحدة.
ولا شك لكل رئيس رؤيته الخاصة التي يرى فيها كيف يمكن أن تتحقق أهداف ومصالح الولايات المتحدة. وكما أشرنا تلعب الشخصية دورا محوريا في تحديد معالم السياسة الخارجية للرئيس الذي يعتبر الرئيس الأعلى للدبلوماسية الأمريكية، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، والمشرع الرئيسي. ومن الخطأ التسليم أنه سيكون إمتدادا لمن سبقه وخاصة أوباما وإن كان سيلعب دورا هاما، ولا أستبعد القول ان يكون المستشار الأول غير المعلن. والمحدد الثاني الوقت وعنصر الزمن، فهو لا يملك الوقت الكافي لمواجهة كل التحديدات والقضايا الداخلية والخارجية. والمحدد الثالث الإرث والعبء الكبير الذي تركته إدارة ترامب وخلق نواة للترمبية الجديدة.
والمحدد المهم الذي سيلقي الضوء على محددات سياساته الداخلية والخارجية فريق العمل الذي سيعمل معه، وبالأسماء المعلنة: بلينكن للخارجية، وهو عراب الاتفاق النووي الإيراني، وسوليفان للأمن القومي، وكيري لملف المناخ، تتكشف أولويات الملفات التي ستحظى بأهمية أولى، وملفات كالشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي قد تحظى بأولوية أقل، إيمانا ان بعض الملفات والقضايا لن تحل في فترة حكمه.
بايدن في حاجة لتحقيق إنجاز سريع ومن هنا التركيز على القضايا الداخلية كمواجهة "الكورونا" ورفع مستوى المعيشة وزيادة عدد فرص العمل.. ولا يمكن تجاهل ان هناك أكثر من تيار التيار التقليدي للحزب الديمقراطي وتيار ساندرز، تيار اليسار الذي يقوم على مراعاة القيم الأخلاقية في السياسة الخارجية وقد ينحسر قليلا للوراء، ومبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية. والرسالة التي أرسلها 400 من الديمقراطيين يرفضون فيها "التدخلات العسكرية وشرطي العالم.. لقد تعب شعبنا من تبديد موارده على حروب أبدية لا تنتج إلا الخراب والكراهية وتضيع الموارد اللازمة للحفاظ على البيئة والصحة والإسكان والتعليم".
الحزب الديمقراطي حزب الشعب العامل وحزب الطبقة الوسطى والأقليات. وكما يقول مايكل ساندل، بروفيسور في هارفارد: الحزب الديمقراطي صار محددا أكثر بخريجي الجامعات أكثر من العمل وأصحاب الياقات الزرقاء.. وأخيرا وكما قال دانيال ورزنر إذا كان سلاح هيلاري كلينتون وأوباما هو الأمل وسلاح ترمب الخوف، فإن بايدن في حاجة في معركته للصابون وغسل أمريكا، لإستعادة روح أمريكا.
الكل يتوقع الكثير من إدارة مقيده بإرث ضخم وتحديات وحاجات وتوقعات مرتفعة تنتظر ما هو القرار الأول لبايدن.