نشر باحثان من جامعتي ستانفورد وبرسنستون الامريكيتين قبل عامين ورقة تناقش مفهوم "ما بعد الحقيقة"، وهو المصطلح الذي يشير بشكل كبير الى مرحلة راهنة نعيشها أصبحت فيها الإشاعات والآراء الشخصية تنازع الحقائق العلمية على مركز الصدارة- في وقت كان لتكنولوجيا الاتصال ومن ضمنها منصات التواصل الاجتماعي الدور البين في انتشار الأخبار المزيفة والمعلومات المضللة.
هذا الانتشار، كما يشير شانتو ينجار ودوغلاس ماسي، انعكس على الفضاء العام الذي أصبح فيه الانقسام والاستقطاب السياسي والحزبي وكذلك الأيديولوجي سائدا. ويجادلان في ورقتهما أن نتائج البحوث العلمية يتم أيضا تحريفها بشكل منهجي ولدوافع سياسية عبر المنصات الرقمية، داعين العلماء الى تطوير استراتيجيات رقمية لمواجهة حملات المعلومات المضللة عند إصدار نتائج بحوثهم للحيلولة دون ان توظف هذه النتائج لخدمة أي من أطراف الطيف السياسي.
هذا الطرح الوارد في الورقة تطرق الى السياق الأمريكي بشكل خاص، الا انه قد ينطبق على كثير من المجتمعات، ومن بينها المجتمع الفلسطيني.
في الحالة الفلسطينية، قد يكون الاختلاف عن السياق الامريكية يحمل بعدين متصلين بطبيعة علاقة المجتمع بالأكاديميا. البعد الأول يتمثل بالجهد البحثي المرتبط بالاحتياجات المجتمعية. وهنا لا ادعي امتلاكي لأي إحصائية تفيد بمدى قرب ما تصدره جامعاتنا من بحوث مع احتياجات المجتمع ودورها في بناء السياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ..الخ، انما هي ملاحظة شخصية، اعترف انها قد تحمل بعضا من السطحية في قراءة الواقع. الا ان هذا البعد قد نوقش ويناقش وسيناقش عند كل مرة تطرح مسألة هدف الجامعة في المجتمع.
والبعد الاخر، يكمن في مدى توظيف الحقائق العلمية والبحثية عند نقاش المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الحوض الرقمي وفضائه العام. وهنا أيضا أتوقع ان أطراف النقاش العام الرقمي نادرا ما تلجأ الى حقائق علمية ونتائج بحوث عند مناقشة القضايا الداخلية.
عادة ما يسارع الأكاديميون للدفاع عن دورهم الهام في المجتمع عندما يتهمون بأنهم يعيشون في قصور عاجية منفصلة عن هموم المجتمع، ويطرحون الأسباب والتفسيرات الكثيرة ضمن حجة دفاعهم. وهنا قد نحتاج لنقاش اخر حول دور الجامعة في المجتمع او إعادة تعريف أهدافها الاجتماعية والتنموية.
حجج سكان البرج العاجي لا تصمد كثيرا امام حالة السكوت التي يعيشونها عند كل ازمة مجتمعية، فقضايا الامس واليوم وغدا تحتاج لصوت العلم، وان لم يكن ذلك متاحا فعلى الأقل ان يبادر المجتمع الأكاديمي الى قيادة نقاش مجتمعي كان ولا زال ملحا قبل الانزلاق نحو المربعات الخطيرة التي نرتعد جميعنا خوفا من فكرة حدوثها.
ان انتشار الوهم المعاصر المسلح بأدواته الرقمية الذي اول ما يستهدف منابر العلم ومخرجاته -من حقائق ونتائج أبحاث قد لا تستهوي الآراء الشخصية- يحتاج من سكان الأبراج العاجية-العالية النزول الى الميدان والشارع، قبل ان تزداد الأبراج طولا ويهتز دور الجامعة وصوتها في عصر ما بعد الحقيقة.