جاء في دراسة استراتيجية صادرة عن معهد الدراسات السياسية في جامعة "بيجين" ان هناك وجهتي نظر متناقضتين حول دور الأيديولوجيا في الصراع الصيني الأمريكي: نظرة ترى ان الصراع الايديولوجي غير مهم وهي نظرة يشارك فيها كثير من الاستراتيجيين الصينيين مع بعض المحللين الامريكيين، وهؤلاء ينصحون الطرفين بالتخفيف من المنافسة في هذا المجال، بينما يرى فريق آخر مكون من مفكرين امريكيين بالاكثرية، ومنهم من كان يعمل في ادارة ترامب ان الايديولوجيا هي جزء لا يتجزأ من الصراع بين القوى العظمى وينصحوا الولايات المتحدة بتصعيد من التنافس مع الصين على الصعيد الايديولوجي.
ويرى الباحثان ان وجهتي النظر هاتين غير مكتملتين، معتبران ان الأولى صحيحة في محاولتها تفادي الصراع الايديولوجي الذي قد يصبح خطيرا، ويعتبران ان دور الايديولوجيا ليس في تزايد، بينما يعتبران ان النظرة الثانية ايضا صحيحة في اعطائها دورا اكبر للايديولوجيا، ولكنها خطيرة في نصائحها للادارة الامريكية، بضرورة استخدام لهجة هجومية على الصعيد الايديولوجي مما قد يؤدي إلى المجازفة والتصعيد في الصراع الاستراتيجي.
والحقيقة في رأي معظم المحللين ان الوضع الراهن يـتأرجح بين النظرتين وانه ما دامت قد دخلت القوتان في منافسة استراتيجية، وما دامت لديهما ايديولوجيتان مختلفتان، فيصبح من غير الممكن تفادي التنافس الايديولوجي الذي يمكن ان يبقى محدودا طالما لا تريد القوتان التصعيد، بينما قد يؤدي التصعيد إلى حرب باردة تشبه "حملة صليبية".
ولذلك يعرف المفكرون الصينيون الوضع السائد بانه يشكل "معضلة أمنية" في المجال الايديولوجي، مما يعني ضرورة محاولة كل طرف تفهم نقاط ضعف الطرف الآخر ومدى أثر استخدامهما لما يثير التخوفات الامنية لبعضهما البعض، وبالتالي الامتناع عن استخدام الايديولوجيا لاسباب داخلية.
ويوضح الباحثون الصينيون انه رغم الاختلاف في المجال الايديولوجي بين الصين والولايات المتحدة، إلا أنه لم يكن يؤثر هذا الاختلاف في صفاء العلاقات بينهما في السبعينيات من القرن الماضي، حيث قد جاء مثلا في مذكرات نيكسون انه كان قد قال للزعيم الصيني "ماو تسي تونغ" بعد لقائهما في عام 1972 ان "الفلسفة السياسية الداخلية لدولة ما لا تهمنا ولكن ما يهمنا هو طبيعة سياسة هذه الدولة تجاه العالم وتجاهنا"، وقد جاء بشكل واضح في "اعلان شانغاي" لعام 1972 ان هناك اختلافات جوهرية بين النظم الاجتماعية لواشنطن وبيجين ولكن لا يجب ان تتدخل واحدة في الشؤون الداخلية للاخرى". واستمر التشديد على مبدأ "عدم التدخل" وتثبيته في عام 1979 وعام 1982.
وبين عام 1979 وحتى منتصف الثمانينات، لم يكن الاختلاف في التصورات الايديولوجية بين الطرفين ذو أهمية تذكر حيث كان الصراع الأمريكي مع الاتحاد السوفيتي على أشده في كل المجالات وكان الامريكيون ينظرون إلى الانفتاح الصيني كعامل ايجابي، وقد اعتبر الامريكيون القائد الصيني "دين كسياوبنغ" كأهم رجل في عام 1975 ثم مرة اخرى في عام 1978، وعندما تحدث رونالد ريغان مع طلاب في جامعة "فيودان" في عام 1984 مدح روح الصداقة والتعاون بين الولايات المتحدة والصين رغم الاختلاف في أنظمتهم السياسية.
بعد حادثة "ميدان تيناميان" ونهاية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، تبلور الصراع بين الولايات المتحدة والصين حول عدد من القضايا، مثل المنشقين الصينيين والسجون والحرية الدينية وهونغ كونغ، واصبحت المعركة تدور في اطار "مجلس حقوق الانسان للامم المتحدة".
وبدأت المنافسة الايديولوجية تظهر على السطح في اواخر الثمانينيات خلال ادارة بيل كلينتون واجه الرئيس الامريكي الصينيون بقضايا حقوق الانسان وقضية "التيبت" خلال اجتماع القمتين بينه والرئيس الصيني في عام 1997 وعام 1998.
ثم تحسنت العلاقات مرة اخرى في اواخر التسعينيات وطالب كلينتون من الكونغرس دعم دخول الصين في منظمة التجارة العالمية على أساس ان ذلك قد يؤثر علىهم ايجابيا في قضية حقوق الانسان.
لم يكن الصراع الايديولوجي مع الصين يحظى باهتمام كبير خلال ادارة بوش حيث بدى الصراع الاساسي مع "الارهاب"، مما كان سيتطلب ايضا مشاركة الصين في مكافحة الارهاب حيث كان الامريكيون في عام 2005 لا يزالوا يظنون ان الصين ستتطور حسب رؤيتهم ورغبتهم، وقد ظن بوش ان "اجندته من اجل الحرية" وفتح الأسواق ستؤثرايجابيا على الصين للمطالبة بالحرية في المجال الداخلي.
وحسب رأي المحللين فإن العلاقة مع الصين خلال ادارة اوباما قد اصبحت اكثر تعقيدا، فبينما ازدادت لهجة التعاون الايجابي والتنسيق بشكل عام، عبر عقد اجتماعات قمة متتالية وتأسيس ما سمي "الحوار الاستراتيجي والاقتصادي"، الا انه كانت العوامل التنافسية في المجالات الاقتصادية والامنية في تزايد مستمر وازدادت الشكوك في النيات بينهما، خاصة انه تبين ان محاولات الولايات المتحدة القيام بمزيد من التعاون الاقتصادي لم تؤثر على أي تغيير في المجال الداخلي في الصين.
وقامت ادارة اوباما في عام 2015 بمحاولة "الحوار الكبير حول السياسة الصينية"، مما كان انذارا حول التغيرات الحقيقية في الاستراتيجية الصينية، حتى أعلنت ادارة ترامب في اواخر عام 2017 نهاية سياسة الارتباط والعودة إلى سياسات التنافس للقوى العظمى في مجال الامن القومي وسياسة الدفاع. وسميت الصين بـ"القوة التحريفية" وعرفت كالمنافس الاستراتيجي الاول للولايات النتحدة مما قد ادى إلى اصابة الحلم الامريكي بتحويل الصين إلى قوة صديقة باحباط وخيبة امل.
وهكذا بدات ادارة ترامب النظر إلى العلاقات الامريكية الصينية عبر منظور ايديولوجي، وقد جاء في مذكرة الاستراتيجية الامنية في عام 2017 "ان المنافسة الجيواستراتيجية اصبحت بين انظمة سياسية حرة من جهة وقمعية من جهة اخرى في منطقة المحيط الهندي والهادئ".
واعتبرت ادارة ترامب ان الصين اصبحت التحدي الاول للامن الوطني الامريكي في عام 2019، عبر آنذاك "مايك بانس" عن آراء تشبه خطاب ونستون تشرتشيل في عام 1946 عن "الستار الحديدي" حيث قال ان الصين بدأت ليس فقط الزيادة في قمعها لشعبها بل بدأت ايضا تتدخل بشؤون "الديمقراطية" الامريكية، وقد ساهم بومبيو بهذه النظرة قائلا ان التحديات الاكبر في العالم "هي بين الحزب الشيوعي الصيني ونظامه السلطوي وباقي الشعوب المحبة للحرية في العالم" وقد بدا بعض المفكرين الامريكيين بتحريض امريكا لاستغلال نقاط ضعف الصين من اجل القيام بهجوم ايديولوجي عليها.
يبدو اليوم واضحا ان ادارة بايدن قد أخذت بهذه النصائح المدمرة لاثبات قوتها وفتحت الحرب الهجومية الايديولوجية على الصين، على عكس توقعات بعض المحللين السياسيين، فحتى قبل الاجتماع الاول بين ادارة بايدن والصين في الاسكا كانت قد بدأت ادارة بايدن باستفزاز الصين بدعوة ممثل تايوان لحضور حفل التأبين، مما ادى الصين إلى ارسال سرب من الطائرات الصينية وحاملات القذائف إلى اجواء تايوان، وقام بايدن بالتالي باتهام الصين بتهديد الامن والاستقرار الاقليمي، معلنة ان دعمها لتايوان صارما و صلبا، ثم قام بايدن بوصف الصين كأهم منافس للولايات المتحدة ثم اصدرت ادارته مذكرتها المؤقتة للمراجعة الاستراتيجية التي عبرت فيها عن ختمية التنافس مع الصين، بينما اتهم وزير خارجيته بلينكن الصين بتجاهل قوانين النظام العالمي، في الوقت الذي قام به في 12 اذار بالاجتماع مع مجموعة ‘كواد’ المكونة من استراليا والهند واليابانن والولايات المتحدة، وذلك بهدف مواجهة الصين.
و جاءت كل هذه الخطوات تحضيرا للقمة الامريكية الصينية التي تمت في 18 و 19 اذار في الاسكا و التي ابرزت السلوك العدواني لادارة بايدن تجاه الصين حيث لم يتفق الطرفان على اي من النقاط المطروحة للنقاش و قد جاءت هذه القمة ايضا في اطار السلوك العدواني الموجه من قبل بايدن تجاه روسيا حيث ادت هذه العدوانية المعلنة إلى قيام الصين بعدة بخطوات للمواجهة و من اهمها تعزيزو تقوية العلاقات مع حلفائها وخاصة روسيا وايران، فقد توجت الصين علاقتها مع ايران عبر اتفاقية مالية جديدة. هذا بالاضافة إلى استخدام الصين لسياسة فرض العقوبات على بعض الشخصيات الغربية المسيئة لها، معلنة بذلك استعدادها وقدرتها للتعامل مع الغرب بالمثل، حيث يفرض الاخير عقوبات على الافراد كم يشاء متخطيا بذلك سيادة الدول.
ومع استقطاب التحالفات بين الشرق والغرب، يشتد الصراع في كل المجالات بدون وجود مؤشرات واضحة لمصير هذا الصراع فالامريكيون يسموه صراعا بين الديمقراطية و"الاوتوقراطية "او حكم "الفرد المطلق‘"" في الوقت الذي يدعي فيه الرئيس الامريكي قدرته على ما يسميه ‘امتلاك المستقبل’ وربح المسابقة مع الصين في كل المجالات، مع ان ميزان القوى العالمي يشير ان التحالف المضاد بين الصين وروسيا وايران في مواجهة شبح المارد الامريكي، هو الذي يزداد قوة وصلابة.